محمود درويش .. شاعر اللّون الأزرق

محمود درويش .. شاعر اللّون الأزرق
الأحد 2 غشت 2020 - 23:12

يخيّل إليّ وأنا أطالع قصائد محمود درويش، أن لهذا الشاعر قصة مع اللون الأزرق؛ فلا تكاد تخلو قصيدة من الإشارة إلى هذا اللون ؛ فمساحته تمتد حتى تكاد تخفي بقية الألون فتبدو باهتة . للأزرق حضور قوي ومميز، وكأن درويش ارتضى هذا اللون ليصبغ به عالمه . فما دلالته الرمزية ؟ وما السر وراء الاحتفاء بهذا اللون اللازوردي في قصائد محمود درويش؟

يقول محمود درويش في قصيدة ” فرحا بشيء ما ” :

” كنتُ أمشي حالما بقصيدة زرقاء من سطرين “

و يقول في في قصيدة ” عابرون في كلام عابر ” :

” خذوا ما شئتم من زرقة البحر والذاكرة “

يقول الدكتور محمد فتوح أحمد : ” الألوان ليست مدركات بصرية متميزة فقط ، بل هي شتيت من الإيحاءات والمعاني المبهمة ” ( الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، ص: 220).

يرمز اللون الأزرق في الثقافات العالمية إلى الصفاء والعمق ، أما في الثقافة العربية ، فيبدو على العكس من ذلك ، إذ يستعمل في مواقف تبعث على الرعب وعدم الارتياح ، وإذا كان البعض يرى أن لا وظيفية لهذا اللون عند العرب سوى ما يحمله دلالات التهويل والانقباض، كما قال امرؤ القيس :

أيَقْتُلُني وَالمَشْرَفيُّ مُضَاجِعِي *** ومَسْنُونَةً زُرْقٌ كأنيابِ أَغْوَالِ

فإن في التراث العربي ما يشير إلى خلاف ذلك، مثل قول الشاعر:

بَرزَتْ فِي غِلالة زَرْقاء *** لازَوَرْديّة كَلَوْنِ السّماء

وقول الآخر :

ولازَوَرْدِيّةٌ تزهُو بزُرقتها *** بين الرّياض على حُمْرِ اليواقيت

كأنّها فوق قاماتٍ ضَعُفنَ بها *** أوائلُ النار في أطراف كبريت

وهذا يعني أن الشعراء العرب كانوا يدركون القيمة الجمالية لهذا اللون ، باعتباره لونا يحقق المتعة البصرية والنفسية في آن واحد، إلى الحد الذي جعلهم يفضلونه على اللون الأحمر، كما يبدو من خلال قول الشاعر ” تزهو بزرقتها ..على حمر اليواقيت “.

دلالتا الصفاء والعمق واضحتان في السطرين السابقين من شعر درويش؛ فالحلم بقصيدة زرقاء من سطرين، فيه إشارة إلى الكلام الصادق النابع من القلب، مهما يكن وجيزا زمختصرا، ففيه غنى عن الكلام الكثير الذي لا يمحضك الصفاء والإخلاص .

أما في السطر الثاني ، فيبدو الشاعر متساميا عن الأنانية، متدثرا بلباس الجواد الكريم ؛ فيدعو الآخرين إلى الاغتراف من زرقة البحر اللانهائية ، ومن الذاكرة الزاخرة بالأمجاد والبطولات ، وهل يُنقص المغترف من ماء البحر شيئاً .

ولأن شعراء الحداثة ـ بحسب أحمد المجاطي ـ يغترفون من بحور الثقافات العالمية بمختلف تلاوينها ، فلا يمكن حصر دلالة اللون الأزرق في الدلالة الثقافية فحسب ؛ ففي كل مرة تحمل دلالة رمزية تناسب مقام وسياق كل قصيدة .

يحمل اللون الأزرق دلالات روحية في شعر درويش ، فيبدو أحيانا مثل الصوفي المتأمل في زرقة السماء اللامتناهية ، متفردا برؤاه ، سابحا في فضاء الخيال الذي لا تحده الجهات الأربع . فاللون الأزرق ” أثيري روحي بحد ذاته ، يزيل الطابع المادي عن كل ما يمسك به ، هو طريق اللانهاية حيث يصبح الحقيقي خياليا …” ( كلود عبيد ، الألوان ، ص : 82).

يقول درويش :

قليل من المطلق الأزرق اللانهائي

يكفي

لتخفيف وطأة هذا الزمان

وتنظيف حمأة هذا المكان …

يمتد هذا الأزرق اللانهائي حتى يشمل كل الجزئيات والتفاصيل الصغيرة في حياة الشاعر محمود درويش؛ عصافير زرقاء ، وثوب أزرق ، كل شيء يبدو متوشحا اللون الأزرق.

يقول درويش :

مطر ناعم من خريف بعيد

والعصافير زرقاء ..زرقاء

والأرض عيد.

ويقول أيضا في قصيدة ” لم تأتِ ” :

سأنضو ربطة العنق الأنيقة ، هكذا أرتاح أكثر

أرتدي بيجامة زرقاء …

وفي أحايين أخرى ينتقل درويش من تسمية اللون الأزرق بشكل صريح، إلى استحضارأحد مصادره ، وهو حجر اللازورد . حيث يبدو لنا منغمسا في عالمه الأزرق، مستمتعا بجماله الظاهري واللاّمرئي معا.

يقول في قصيدة ” انتظرها ” :

بكوب الشراب المرصّع باللازورد

انتظرها …

وفي قصيدة “لا تعتذر عما فعلت ” يقول :

سوف يجئ يوم آخر، يوم نسائي غنائي الإشارة

لازورديّ التحية والعبارة …

وإذا كان يطلق على المادة الأسطورية التي تحول المعادن إلى ذهب ” حجر الفلاسفة ” ، فيحق للاوزرد أن يسمى ” حجر الشعراء “، حجر الجمال الذي يبعث النفس على الارتياح، فحق لدرويش كل هذا الاحتفاء .

*باحث في البلاغة وتحليل الخطاب

أضف تعليقك

‫‫من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم‬.